السؤال
السلام عليكم
ما زالت الوساوس الدينية تتعبني، وكذلك السلوكيات القهرية، كل شيء متعلق بالدين، وخوفي الشديد من الضلال، أجاهد نفسي، وتحسنت -الحمد لله-، لكن ما زال الأمر متعباً عندما أفعل ذنباً، وعندي ذنب آخر متكرر أجاهد نفسي فيه، لكن ما زلت أقع فى الذنب وأتوب مراراً وتكراراً، أشعر أنه أذهب إيماني وخشية ربي، وجعل قلبي قاسياً أو ميتاً، وأصبحت همتي ضعيفة جداً.
حينما مرضت بالوساوس كنت أخاف من التفقه في الدين، أو تعلم العلم الشرعي، نظراً لشدة وساوسي المتعلقة بالدين، حتى أصبحت خاوية من الداخل.
أنا -الحمد لله- أؤدي فرائضي وأورادي وأحرص عليهم، لكن أشعر بالحزن والتعب، وأشعر بهمة فاترة للتعلم والتفقه، أريد أن يرضى الله عني، وأريد أن أزداد إيماناً وهمة في المجاهدة، فكيف لي بذلك؟
أمر آخر: وهو أني أخاف بشدة، خاصة من الخطأ، حيث تربيت على المثالية والجلد على الأخطاء مهما كانت صغيرة، حتى أصبحت أخاف وأتردد في اتخاذ القرارات أو أعجز عنها.
أخاف المخاطرة، أو قول لا لأي أحد لأي شيء لا يناسبني، وعدم تقديري لذاتي أو قبولها، رغم فضل الله علي بإنهاء الماجستير في إحدى الدول الأوربية بتميز، وحالياً تم اختياري وقبولي لإنهاء الدكتوراه، إن شاء الله.
سؤالي: كيف أتغلب على خوفي وضعف تقديري لنفسي، لأصبح مؤمنة قوية، ونافعة لنفسي وللأمة؟
جزاكم الله خيراً.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
قرأنا رسالتك -أيتها الفاضلة-، وحمدنا الله تعالى على تدينك وخوفك وجلدك، وعلى حرصك على الطاعة، والسؤال عن كيفية الوصول إلى لذتها وحلاوتها، وما أنت فيه من نية صالحة يدل على خير كثير فيك، نسأل الله أن تكوني ذلك وزيادة، وعلينا ابتداء -أيتها الفاضلة- أن نفصل بين خيطين رقيقين:
– بين الاعتدال في الطاعة والوسوسة.
– بين الخوف المقعد عن العمل أو التردد الموجب للكسل.
هذا ما سنحاول تجليته في الإجابة إن شاء الله تعالى.
أختنا الكريمة: دعينا نبدأ أولاً بالوهم من الوسواس في نقاط محددة:
ً
أولاً: اعلمي -يا رعاك الله- أننا من نضخم من شأن الوسواس أو نهون منه، وأفضل وسيلة للتخلص منه: فهم طبيعته والسلوكيات التي يتغذى عليها، لأنه متى ما استمكن من عقل من يريد بدأ ينتقل به من مسألة عقدية إلى أخرى سلوكية إلى ثالثة فكرية، وهكذا يتلون معه كلما سايره، لذا لا بد من فهم طريقته حتى تظهر حقيقته، وحينها سهل عليك التخلص منه نهائياً، إن شاء الله.
ثانياً: بيئة الوسواس هي القاعدة الأساسية التي ينطلق منها، وبيئته هي التفكير السلبي، أو الفراغ الفكري، أو الوقت بلا عمل، كلها مسميات لطبيعة واحدة، فإذا وجد تلك البيئة اعتمد في افتراس ضحيته على أمرين:
– إظهار ضعفها وخوفها وعجزها عن مقاومته حتى تستسلم له، وهو ما يظهر أحياناً لك في التردد في اتخاذ القرارت لأجل الخوف من الخطأ.
– إضعاف ثقتها بنفسها ودينها وربها، بل وعالمها وكل محيط بها حتى ينفرد بها، وهو ما حال بينك وبين تعلم علوم الشريعة.
لذلك ننصحك ابتداءً بتحويل كل أمر سلبي في حياتك إلى إيجابي، مع ربط الوسواس بالسخف، ولا يكتفى أن يكون ذلك اعتقاداً داخلياً، بل يلزم التلفظ به، بأن تقولي: هذا وسواس، كلام فاض، كلام سخيف.
كل هذا نوع من التغيير المعرفي المهم جدًّا، فحين يستخف الإنسان شيئًا فسيحتقره، وحين يحتقره سيحدث ما يعرف بفك الارتباط الشرطي، أي أن الوسواس يُصبح وكأنه ليس جزءًا من حالة الإنسان.
ثالثاً: ثاني أهم الأدوات المقاومة للوسواس، والتي تزيد كذلك في زيادة معدل الإيمان: العلم، لذا نحن نرجو منك البداية بقراءة كتيبات صغيرة منها ما يخص الاعتقاد، ومنها ما يخص زيادة الإيمان، ومنها ما يخص التعاملات وفهم طبائع الناس وكيفية اتخاذ القرارت.
– أما ما يخص الاعتقاد فننصحك بكتاب 200 سؤال وجواب حول العقيدة كبداية لك، كما ننصحك بسماع بعض الشروحات هنا على موقعنا إسلام ويب في العقيدة.
– أما ما يخص زيادة الإيمان فننصحك بكتاب ظاهرة ضعف الإيمان: أعراضها أسبابها علاجها، للشيخ محمد صالح المنجد.
-أما ما يخص الثقة بالنفسة وطريقة التعامل مع الغير، فإننا ننصحك بكتاب: الثقة والاعتزاز بالنفس، للدكتور إبراهيم الفقي.
رابعاً: مجاهدة الوسواس لها أجرها عند الله تعالى، ولكن لأننا نريد أن ننتقل من السلبية إلى الإيجابية، فإننا ننصحك بالرد المجمل والعمل المفصل، بمعنى إذا أتاك الوسواس في أمر يخص الله عز وجل، فقولي: وساوس وشيطان نعوذ بالله منه، أنا أعبد ربي لا أشرك به أحداً، ثم اجعلي مجاهدتك للشيطان في ذكر الله مائة مرة مثلاً كلما أتاك هذا الوسواس، وبهذا ننتقل إلى الإيجابية.
أما السؤال الثاني فلا يخفاك -أختنا- أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة ما تضمن ثلاثة أمور:
الإقرار بالقلب.
نطق باللسان
عمل الجوارح.
عليه فإنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعليه فإذا أردنا استشعار لذة الطاعة مع المداومة عليها، فلا بد كما ذكر أهل العلم من ثلاثة أمور:
أولاً: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله وبأسمائه وصفاته ازداد إيماناً بلا شك، ولهذا نجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم، نجدهم أقوى إيماناً من الآخرين من هذا الوجه.
ثانياًٍ: النظر في آيات الله الكونية، والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيماناً، قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات: 20-21 ، والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
ثالثاً: كثرة الطاعات فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيماناً، سواء كانت هذه الطاعات قولية أم فعلية، فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم والحج تزيد الإيمان أيضاً كمية وكيفية.
لكي يتحقق ذلك لا بد من العمل على ما يلي:
1- أداء الفرائض والنوافل في أوقاتها، هذا التقيد بالوقت والقلب معاً يورث محبة الله للعبد، ففي صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، بي يسمع بي يبصر بي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه).
2- الخلوة مع الله ولو دقائق في البداية: لا تجعلي يومك يمر عليك دون أن تكون لك مع الله خلوة، في وقت يغفل الناس بين نائم ولاه، قومي أنت إلى صلاتك وانصبي قدميك لله تعالى، وعند السجود سلي الله ما شئت من خيري الدنيا والآخرة.
3-الأذكار: من أعظم الطاعات وأيسرها وأسهلها، والتي لا تحتاج إلى شروط: كثرة ذكر الله تعالى، اجعلي لك ورداً دائماً من الأذكار، وهذه الأذكار لا تصرفك عن عملك، مثلاً وأنت تعملين يمكنك الذكر، وأنت في المواصلات يمكنك الذكر، وأنت في مطبخك يمكنك الذكر، اجعليه -أختنا- ملازماً لحياتك كأنه جزء منها.
4- الصحبة الصالحة: فالصاحب كما يقال ساحب، فإذا رزقك الله أخوات صالحات يسرن لك هذا الخير، وأعنك عليه، فالمرء بإخوانه وإخوانه بدونه.
5- الدعاء: هو سر عظيم وأجر كبير بين العبد وربه، والله يحب من عباده ذلك، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر: الآية 60] هو عبادة بذاته قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ). [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني].
وهو من أحب العبادات إلى الله وأكرمها، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ) [رواه أحمد والبخاري، وابن ماجة، والترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي] وصاحبه في معية الله قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يقول الله عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) [رواه مسلم].
أخيراً ننصحك -أختنا- عدة نصائح نراها هامة لك:
1- أحد أهم أسباب ضعف الثقة والتردد ما يلي:
– تهويل الأمور وتضخيم المواقف، بحيث تشعرين أن من حولك يركزون على ضعفك، ويراقبون كل حركة غير طبيعية تقومين بها، وهذا وهم وعلاجه هو الانشغال بالأهداف والتغافل عن سفاسف الأمور.
– اعتبار نقد الناس والاهتمام بذلك، والتفكير في كل انتقاد يوجه إليك، وهذا أيضاً خطأ لأن كل إنسان له ثقافته ورؤيته، وليس كل كلام الناس صواباً، كما أن أفعالك كلها ليست صواباً، وعليه فالتعامل مع النقد لا بد أن يكون بإيجابية وفق معايير الوحي.
– الخوف والقلق من الخطأ يدفعك إلى ترك العمل بالكلية، والأصل أن تجتهدي في التحسين، وتعذري نفسك عند الخطأ فنحن بشر.
2- أحد أهم المعينات على زيادة الإيمان: أداء الفرائض والاجتهاد في النوافل، والخلوة ولو بركعتين، والمحافظة على الأذكار، والصحبة الآمنة.
نعم أختنا: الصحبة الآمنة معين قوي لك على الجهتين معاً، على زيادة التدين وعلى المساعدة في اتخاذ أكبر قدر من القرارات، لأنك آمنة إذا أخطأت بعد الجهد من المحيط الآمن حولك، لذا نرجو أن توجدي من أهلك أولاً ممن تعرفينهم جيداً، ومن بعض الإخوات الصالحات ما يعينك على ذلك.
ختاماً: أختي الكريمة: ليس من شرط الصالح ألا يخطئ أبداً، فلسنا معصومين، بل نصيب ونخطئ، والفرق بين أهل الصلاح وغيرهم أنهم متى ما وقعوا في الذنب هرعوا إلى الله تائبين باكين نادمين، إنهم يجتهدون في عدم الوقوع لكن إن زلت القدم فإن لهم رباً رحيماً جواداً كريماً يعفو عنهم ويغفر لهم سبحانه، وإذا قرأت القرآن وجدت ذلك في أوصاف أهل الجنة، قال الله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران:133-136).
فانظري رحمك الله إلى قول الله عنهم: (إذا فعلوا فاحشة) إي إذا قاموا بالذنب هرعوا تائبين، يقول ابن كثير رحمه الله أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني أذنبت ذنبا فاغفره، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره لي، فقال عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء).
نسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك، وأن يكتب لك الخير، والله الموفق.