مرض التدهور العقلي وضرورة رعاية الوالد المصاب به وحكم إلزامه بالتكاليف الشرعية

Share Article

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أود أن أشكركم على ردكم على جميع استشاراتي السابقة..فجزاكم الله خيراً.

لقد أصيب والدي وهو في عمر الـ54 بمرض يقول الأطباء: أنه تدهورٌ في المخ، وهذا جاء نتيجة جلطة في المخ، فبعد ذلك أصبح لسانه ثقيلاً في الكلام، كثير الضحك، يتبول على نفسه، ويضحك حينما أمي تدخل معه إلى الحمام ضحكاً كثيراً، لدرجة أنها تنفعل من هذا، فأنا أود أن أسألكم: هل هذا هو التدهور في المخ؟ علماً بأنه متذكر أولاده وزوجته، ويريد أن يعاشرها، ويعرف أهله، ويسأل عنهم، بجانب ذلك التلفزيون؛ فهو حافظ لمواعيد المسلسلات والأفلام وأرقام القنوات حفظاً لا تتصوره، فهو حينما يسأله أحد عن الذي حصل في المسلسل يروي له ذلك، هو يعمل كل هذه الأشياء بجانب أنه لم يتحرك ولكن ليس مشلولاً، بل لا نعرف ماذا جرى له! فأرجله لم يمش عليها بل يحرك أصابعه ويحس بالوجع فيها، وأيضاً يده ثقيلة جداً ولا يحرك يده اليمنى، ويأكل بالشمال، ولم يتحسن من أدوية أو جلسات كهرباء، فصرفنا الكثير ولكن دون فائدة، فهو يتعذب ونحن معه نتعذب.

أرجو منكم أن تحددوا لي مرضه، ولماذا الضحك؟ وهل التدهور في المخ يأتي نتيجة من الجلطة أم ماذا به؟ وهل يوجد علاج يجعله لا يضحك؟

ولي طلب أخير وهو أن تدعوا له أن يرحمه ربنا سبحانه؛ لأنه يتعذب ولا أحد يحس به، فأمي حينما يضحك تقعد تصرخ وتبكي وتقول: (بتضحك على أيامك السوداء، وتقول لأهلها ولأهله، وتقول أنه اتجنن وهطلبلك مستشفى الأمراض العقلية).

هل فعلاً توجد مستشفى أو مصحة تأخذه وهو بهذه الحالة؟

أفيدوني أفدكم الله.

وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

جزاك الله خيراً على اهتمامك بأمر والدك.

الذي حدث لوالدك يُشير إلى أن السكتة الدماغية قد أصابت أجزاءً من المخ، منها الفص الأمامي، وهو الذي يتحكم في تصرفات الإنسان وسلوكه الوجداني والعاطفي، وهذه الإصابة هي التي تؤدي إلى نوبات الضحك والتصرفات الاجتماعية غير السليمة.

أما كون الوالد لا زال يعرف الكثير فهذا وارد؛ لأن الإنسان لا يفقد كل ملكاته حتى وإن كانت الإصابة الدماغية شديدة.

يُقصد بالتدهور العقلي هو تدهور مقدرات التذكر والتحكم في التصرفات والعواطف وضوابط الشخصية، وفي كثيرٍ من الناس قد تتحسن هذه المقدرات بمرور الزمن.

أما بالنسبة لرعاية والدكم، فهي واجبٌ إسلامي واجتماعي وأخلاقي، ومهما كانت تصرفاته فيجب تحمله وتقديم كل مساعدة ممكنة له، ويمكنكم التناوب على خدمته، وبالطبع خاب وخسر من أدرك أحد والديه أو كليهما ولم يدخلاه الجنة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى والدتك أن تعرف أن من أولويات واجباتها هي رعايته والوفاء له، وبالطبع يجب أن يُذهب به للطبيب المختص في أمراض الأعصاب أو الطب النفسي؛ حيث توجد الكثير من الأدوية والإرشادات النفسية التي تُساعد في تحسين مسلكه.

نسأل الله تعالى له الصحة ونسأل الله تعالى لكم الصبر والتوفيق في بر هذا الوالد وخدمته، ولكم الأجر من الله تعالى.

وبالله التوفيق، وكل عام وأنتم بخير.

د/ محمد عبد العليم

=================

ولمزيد من التوجيه والإرشاد النفسي، فقد أحلنا السؤال على الشيخ/ أحمد مجيد هنداوي، وأفاد بالآتي:

فواضحٌ بحمد الله عز وجل أنك حريصة على بر هذا الوالد المسكين الذي وقعت له هذه الأحوال التي أشرت إليها، وهذا أمرٌ تحمدين عليه، بل إن مجرد سؤالك يدخل في بره ويدخل في الإحسان إليه، فهذا من السعي في مصلحته العاجلة والآجلة إن شاء الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ))[الإسراء:23].

فتأملي قوله تبارك وتعالى: (( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ))[الإسراء:23] كيف أشار إلى حالة كبر السن في بر الوالدين؟ فمع أن الإنسان مطالب بأن يبر والديه في جميع أحوالهما سواء كانا شابين أو شيخين، إلا أن الله جل وعلا نبّه على حالة الكبر؛ لما ينوب الإنسان فيها من الضعف ولما ينوبه من الأحوال التي تقتضي زيادة الصبر عليه وزيادة الرعاية له، وهذا هو الذي تقومين به إن شاء الله، ولذلك نبشرك بأن هذا العمل الذي تقومين به لن يضيع إن شاء الله جل وعلا، بل إن الله جل وعلا يحفظ لعباده أعمالهم ويجازيهم عليها ويثيبهم عليها أعظم الثواب، كما قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ))[يوسف:90]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رغم أنف امرئٍ أدرك أبويه أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنة).

وأما عن حالة والدك، فإن الكلام فيها سيكون في أمرين اثنين:

فالأمر الأول: في تقييم وضعه العقلي من جهة ترتب الأحكام الشرعية وهل هو مكلف أم لا؟

والأمر الثاني: سيكون الكلام فيه حول حالته التي أصابته، وما ينبغي أن تعاملوه به في هذا الوقت سواءً كان ذلك من جهة والدتك الكريمة أو كان من جهة أولاده.

فأما عن حالته من جهة التكليف الشرعي، وهل تجب عليه الواجبات الشرعية أم لا؟ فهذا أمرٌ مرده إلى طبيعة القدرات الذهنية التي لديه، فمن المعلوم أن القوة العقلية ليست شيئاً واحداً ولكنها تتنوع إلى قدراتٍ عديدة، فقد يُصيب الإنسان نتيجة بعض العوارض الصحية العضوية كالجلطة في الدماغ أو كذلك حدوث بعض الأمراض كالخلايا السرطانية ونحوها من الأمراض، قد يصيبه فقدٌ لبعض قدراته العقلية، وهذا يختلف بحسب نوع المرض وشدته، وهذا من شأن المختصين في هذا الأمر، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن تميزي بين فقده لبعض القدرات التي لا تؤثر على إدراكه العام وبين فقده لبعض القدرات التي تجعله فاقداً للتمييز بين الحلال والحرام؛ بحيث لا يَعقل معنى التقرب إلى الله جل وعلا، ومعنى أن هذا من الحرام أو أن هذا من الحلال، وغير ذلك من الأمور، فمثلاً: إذا كان والدك منضبطاً في عامة تصرفاته، بمعنى أنه يفهم أن التعري عيبٌ لا ينبغي أن يقع منه أمام الناس أو أمام أهله، ويُدرك معنى وجود الله جل وعلا، ومعنى الجنة والنار، ومعنى الثواب ومعنى العقاب، ومعنى الحلال والحرام؛ فبهذه الحالة فإن قدراته العقلية تسمح له أن يزاول عباداته الشرعية، فحينئذ يخاطب بها ويكلم بها ويُحث عليها، ولكن إذا كان هنالك قدرٌ من الإخلال بهذه المعاني كأن يكون فاقد التمييز بين الحلال والحرام، وإن كان مميزاً لأولاده وزوجته، وإن كان مميزاً لبعض القدرات الأخرى لمعرفته كما أشرت بالمسلسلات والأفلام وغير ذلك من الأمور، فهذا ليس من شرطه أن يكون مفقوداً ولكن قد يكون ناقصاً في القدرات العقلية الذهنية، فلديه شيء من التمييز دون أمور أخرى، فإن القدرات – كما أشرنا – متنوعة ومختلفة، فأنتم تستطيعون أن تحددوا مدى إدراكه في هذه الأمور لتعرفوا بعد ذلك هل هو ممن يخاطب بذلك أم لا على الوصف الذي شرحناه؟ ولكي تتضح الصورة أكثر:

فإن كان يعقل معنى رمضان ومعنى الصيام، وأنه لابد أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأن يمتنع عن جميع المفطرات والتي يدخل فيها الجماع وتناول الطعام والشراب وغير ذلك، فإن كان يعقل هذه المعاني ويعقل أيضاً معنى القربة، وأن الله جل وعلا يثيب الصائم على ذلك فحينئذ يخاطب بالصيام ويكلف به، وإن كان لا يعقل ذلك؛ بمعنى أنه لا يدرك معنى الصيام ولا يفهم معنى رمضان، أو أنه يجد نفسه كالذي لا يستوعب معنى أن يظل ممسكاً عن الطعام في هذا الوقت ونحو هذا المعنى؛ فحينئذ يكون قد رفع عنه التكليف في هذا المعنى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم) أخرجه مسلم في صحيحه.

فقد وضحت لك الصورة بهذا الاعتبار على أن للقدرات العقلية الذهنية مقاييس طبية معروفة ومقاييس كذلك نفسية، وهذا ليس هو المراد في هذا الباب وإنما المراد الحكم العام من جهة التكليف.

وأما عن الناحية التي تتعلق بمعاملة هذا الوالد، فمن الواضح أن والدتك الكريمة لديها تأثر ظاهر بكيفية التعامل مع زوجها، فلابد أن تستوعب أن هذا الضحك الذي يقع من زوجها هو ضحك ناشئ عن اختلال في القدرات العقلية، وناشئ عن عدم ضبط القدرات العاطفية، فضحكه عند دخولها الحمام مثلاً هذا نوع من الاختلال في ضبط القدرات العاطفية كالضحك والبكاء ونحو ذلك، فعليها أن تتفهم هذا الأمر من زوجها، وألا تغضب عليه لأمرٍ هو خارج عن طاقته ولا يُكلف به، فهذا الضحك الذي يقع منه هو كضحك الطفل الصغير الذي لا يعرف أن الضحك في هذا المقام لا ينبغي، فهل يؤاخذ الطفل في مثل هذا وهو لا يعقل؟ فينبغي أن يعرف هذا.

وأما كونه أنه يشتهيها شهوة الزوج وأنه يريد الجماع معها في الفراش، فهذا أمرٌ لا يُمتنع منه فاقد بعض القدرات العقلية، بل إن كثيراً ممن استحكم فيهم فقد القدرة العقلية يستطيعون أن يباشروا هذا الأمر وأن يحصل منهم جماع؛ لأن هذه غريزة في الإنسان، وإذا ظهرت استجاب لها البدن استجابة طبيعية بحسب ما رُكب في الإنسان من الميل إلى هذا الأمر، فالواجب عليكم جميعاً أن تراعوا حال والدكم، وأن تجعلوا تقوى الله أمام أعينكم في معاملته، فلا يحسن بكم أن تُلقوا به في مصحّة للأمراض العقلية حتى لا تزداد حالته سوءاً، بل إن وجوده في المصحة العقلية سيحرمه من كثير من الحنان والعطف الأسري، ويحرمه من البقاء بين أهله وبين بناته وأولاده، وهذا قد يعود سلباً على نفسه وتتفاقم الحالة معه، فبدل أن تكون حالته في تحسن مطرد ستصبح في سوءٍ مطرد كما هو معلوم، فعليكم بتقوى الله في هذا، وعليكم أن تتذكروا أن الله جل وعلا قد يبتلي العباد وقد يجازيهم من جنس أعمالهم، فلابد لزوجته الكريمة – حفظها الله تعالى – التي هي أمك من الوفاء لزوجها، وأن تراعي حالته، وأن تعلم أن الذي يصدر منه هو أمرٌ خارج عن قدرته، وأن الذي ينبغي لها أن تكون في مقام الزوجة الوفية الحريصة على ستر زوجها وعدم نشر الكلام عنه، وكذلك رعايته رعايةً صالحة، وكذلك بذل الرغبات الممكنة له كالجماع في الفراش وكالمداعبة والملاطفة وغير ذلك من الأمور. والظن بوالدتك الكريمة أنها وفية كريمة في معاملتها، وأن ما يصدر منها في بعض الأحيان ليس هو حكماً عاماً، ولكن ينبغي لها أن تراعي هذا الأمر فيه، وأن تعمل بتقوى الله جل وعلا من عدم إثارة الكلام على زوجها وبيان ما يقع لها، لاسيما وأن ذلك قد لا يكون له داعٍ ظاهرٍ في هذه الأوقات.

وأما بالنسبة لكم، فالمطلوب منكم أن تقوموا على خدمته، وأن تراعوه وأن تبذلوا وسعكم في القيام على شأنه؛ فإن والدكم الآن أحوج ما يكون إليكم، وقد فتح لكم باب عظيم للجنة، فعليكم أن تغتنموه، فإن خدمة والدكم كرامة يكرمكم الله تعالى بها وهي فرصة لكم لأن تلجوا باب البر فتدخلوا إلى رضوان الله جل وعلا وإلى مغفرته، وكما أشرنا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة) أخرجه مسلم في صحيحه.

وأما عن كيفية تحسين أوضاعه النفسية، فإن هذا يحتاج إلى جوابٍ مستقل، فنود أن تذكري بتفصيل شيئاً ما عن طبيعة تصرفاته، وهل يؤدي شيئاً من العبادات أم لا؟ وهل يعقل ذلك أم لا؟ وغير ذلك من التفاصيل التي قد تُفيدنا حتى نرسل لكم بإرشادات تُعينكم على كيفية تحسين مستواه النفسي والعقلي، والله يتولاكم برحمته ويرعاكم بكرمه، ونسأل الله لكم التوفيق والسداد، وأن يوفقكم لما يحب ويرضى في بر والدكم وغيره من أعمال البر والصلاح..

وبالله التوفيق.

You might also like

Hello world!

Welcome to WordPress. This is your first post. Edit or delete it, then start writing!

#Mindey

@mindey