السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه أول سنة لي في الجامعة، قبلت في قسم التصميم سنة عامة، وكانت رغبتي الأولى دراسة الطب في البداية، لم أحزن وأكملت بالرغم من أنه كان بإمكاني الدراسة بالخارج، ولكن حبي للتصميم دفعني للإكمال والتجربة.
انتهى الفصل الأول، وكان مرهقاً جداً، واسوأ ما مر في حياتي كلها، ظننت أن دراسة التصميم ستقوي مهاراتي، ولكن الأمر الحاصل هو أنهم بدأوا يرسمون أفكاري بالشكل الذي يريدونه، ولا مجال لك بأن تطلق العنان لمخيلتك، بل يجب أن تكون في سور محدد، أشعر بأنني لست في مكاني المناسب، والتصميم يتطلب الكثير من العمل والرسم، ولا يمكنني التميز، دائماً يصفون ذاكرتي بالحديدية، وحفظي سريع وثابت، المشكلة أنني لا أعرف نفسي جيداً، لا أعلم بعد ضياع سنة دراسية لا أعتقد أن الطب سيكون خياراً مناسباً لي.
حقيقةً بدأت بفقدان رغبتي في كل شيء، لا أعلم أين أنا؟ وفي أي اتجاه أسير، أصبحت أرفض النقاش مع أهلي حول هذا الموضوع، فلا رغبة لي بالبقاء، أشعر بأن الموت سينتشلني بأي لحظة، ويعود الخوف في كل يوم أستيقظ فيه، الطرق كثيرة، وعلي أن أسلك إحداها، ولكنني بلا هدف أو حلم، ولا يمكنني اختيار ذلك.
لأول مرة في حياتي أصاب بالإحباط بهذا الشكل، أشعر بأنني فاشلة، وبأن كل الأشياء لا تسعني، هناك الكثير من الصعوبات، سواء ببقائي هنا أو بدراستي في الخارج، الطرق وعرة وطويلة، ولا أعلم نهايتها، ولا يوجد من يوجهني هنا، كلهم ينصحونني بما كانوا يتمنونه لأنفسهم، أحيانا أشعر بأنني سأفشل في كل شيء، وأحيانا أخرى أقول ربما أنني لم أكن بالمكان المناسب فقط، ولم أجد الحل المناسب حتى الآن.
أشعر بأنني بدأت إدراك ما حولي، الحياة متعبة وتأخذ منك الكثير، وتجعلك تتقلص حتى تختفي تماماً، أفكار الانتحار بدأت تسيطر علي حتى حاولت ذلك.
أعتذر على الإطالة، وشكرًا لكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بارك الله فيك، وأشكر لك حسن ظنك وتواصلك مع الموقع, سائلاً الله أن يفرج همك، ويشرح صدرك، وييسر أمرك، ويقوي عزيمتك, ويرزقك التوفيق والسداد، والزوج الصالحة، والحياة السعيدة، والنجاح في أمورك عامة.
بخصوص عدم ارتياحك لتخصصك الدراسي في التصميم, فالواجب عليك أولاً الصبر وعدم الاستعجال، وسؤال أهل الخبرة والاختصاص والأمانة في مزايا وعيوب هذه الدراسة والتخصص، وإمكانية تجاوز تحدياتها من الرسم وغيره, ولا يخفاك أن مجرد تجاوزك لفصل دراسي واحد غير كافٍ في إدراك قدراتك وإمكاناتك ومزايا وعيوب هذا التخصص, كما أن رهبة الدراسة وعدم المعرفة والإلمام الكافي بها لا يؤهلك للاستعجال في الحكم عليها فضلاً عن تركها, لا سيما مع ما يظهر من بعض اضطراب في تحديد الدراسة التي ترغبين فيها, حيث عزفت نفسك عن دراسة الطب أيضاً ولم تعودي تعرفين بأي الدراسة والتخصص ترغبين -حفظك الله ووفقك-.
ولا شك أن معيار التخصص المرغوب لكل شخص يعود إلى معرفته بإمكاناته وقدراته العلمية والنفسية أولاً, ثم إلى حاجة المجتمع إلى هذا التخصص ثانيا.
كما وأنصحك بالمزيد من الصبر والمجاهدة للنفس في تجاوز تحديات وعقبات الدراسة, وقد قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}, فالمزيد –أختي الفاضلة– من التحلي بقوة الإرادة والعزيمة والتصميم والإصرار، مع لزوم الثقة بالله تعالى، وحسن الظن به، والاستعانة به وتقواه وطاعته والتوكل عليه في شؤون الحياة عامة، وفي الدراسة خاصة، لقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه…}, واستشعار الثقة بالنفس والقدرة على النجاح، وتجاوز كل العوائق والتحديات, ولا يخفى أن مشاق الدراسة وتحدياتها النفسية والعلمية تستلزم منا الكثير من الجد والاجتهاد، والمثابرة والمصابرة، واستحضار حلاوة العواقب والنتائج والمآلات, وما أجمل وأحكم قول المتنبي:
“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارم”
وتعظم في عين الصغير صغارها ** وتصغر في عين العظيم العظائمُ”
“تريدين إدراك المعالي رخيصةً ** ولابد دون الشهد من إبر النحلِ”.
أهمية الصحبة الصالحة والطيبة الحريصة على طلب التميز والتفوق والنجاح في حياة الإنسان، والتأثير على مستوى ومنسوب إيمانه وقناعاته، وتحقيق مصالحه الدينية والدنيوية, فالصديق الصالح مهم في حياة الإنسان لا سيما المُبتلى بالهموم والوساوس والاضطراب والأحزان, حيث وإن الصديق الصالح يذكّرك إذا نسيت وينبهك إذا غفلت ويعلمك إذا جهلت, وهو خير عدّة لأوقات الرخاء والشدة, وقد صح في الحديث: (المرء على دين خليله, فلينظر أحدكم من يخالل).
الاستفادة من الوقت والفراغ, فإن كثيراً ما يكون سبب ضعف التحصيل والعزيمة عائداً إلى البطالة والفراغ, مما يستدعي ضرورة البعد عن أصدقاء السوء والكسل, ووسائل السوء والشهوات المحرمات.
“الوقت أغلى ما عُنيت بحفظهِ ** وأراه أهون ما عليك يضيعُ”.
“إن الشباب والفراغ والجدة ** مفسدة للمرء أي مفسدة”
“لولا المشقة ساد الناس كلهم ** الجود يفقر والإقدام قتّان”
مما يستلزم منك –وفقك الله– إلى ضرورة الترتيب والتنظيم والتخطيط الصحيح والدقيق للوقت، وشغله وتوجيهه بما يعود عليك بالمنفعة والفائدة في المذاكرة، وتنمية المواهب والثقافة، ومتابعة المحاضرات والدروس والبرامج المفيدة, والقراءة في السيرة النبوية، وسير العظماء والصالحين, والتأمل والاعتبار في سِيَر الناجحين, والتأسي والاقتداء بهم.
“فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبّه بالرجال فلاحُ”.
-عدم اليأس والإحباط والقنوط من النجاح والتوفيق, وفي لزوم الطاعات والنوافل، وأذكار الصباح والمساء، وقراءة القرآن، والاستغفار، والصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-, حيث ويسهم ذلك بلا شك في تقوية وتنمية الإيمان، وتحصيل عون وتوفيق الرحمن، وطرد وساوس النفس والهوى والشيطان، والحرص على تحصيل الجنان والرضوان، والبعد عن أسباب غضب الله وعذاب النيران.
لزوم الصبر والثبات والتأكيد على ضرورة المبادرة إلى الزواج دون قلق أو رهبة أو تردد ما أمكن, لما لا يخفى من مساهمة العفّة, وغض البصر وإحصان الفرج, وبناء الأسرة السعيدة في سعادة النفس والواقع، والإقبال على مصالح الحياة بثقة وتفاؤل وطموح وأمل.
كما ينبغي بصدد تعزيز الثقة بنفسك والنجاح والإحساس بالفاعلية, بل والتميز أيضاً -وإن كنت أرى في لغة رسالتك الكريمة ملامح الثقة والتفاؤل والحمد لله تعالى-، التحلي بحسن الظن بالله تعالى والثقة به, وتنمية الإيمان بملازمة الطاعات والأذكار وقراءة القرآن, حيث لا يخفى ما لذلك من أثر حسن في استمداد عون وتوفيق الرحمن, والشعور بالراحة والاطمئنان وطرد وساوس النفس والهوى والشيطان, قال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه}، وقال سبحانه: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، وقال جل شأنه: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
ولتحذري –حفظك الله– من وساوس توهم عدم القدرة على النجاح, فإن استرجاع الثقة والطاقة والحيوية والمستوى الدراسي, يحتاج لعوامل التحلّي بالشجاعة ومرور الزمن وتعزيز الثقة فحسب، {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}, وأن تطرح مخاوفك جانباً, وتتغلب على شكوكك وتطرد الأفكار السلبية وتصفي ذهنك وتتحرر من القلق والشعور بالضعف, ومن المفيد هنا أيضاً الحرص على ممارسة هواياتك المحببة لديك، والرياضة، والقراءة، والدخول في تنافس مع نفسك ومع غيرك، فإن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..)، [رواه مسلم], فاستعن بربك، وتوكل عليه، وتيقّن بقدرتك على النجاح وتحقيق غاياتك وأهدافك النبيلة والجميلة, وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، [رواه مسلم].
فإن ثبت لديك بعد طول تأمل وصبر وسؤال بعدم إمكانية استمرارك في هذا التخصص, فلا مانع من الانتقال إلى تخصص آخر، شريطة ثبوت الارتياح النفسي والاستعداد العلمي له, وإلا فبقاؤك على تخصصك هو الأصل.
وأما ذكرتيه من التفكير في الانتحار –والعياذ بالله تعالى–، فهو أمر محرم وجُرم كبير وخطير, وموقع في عذاب الدنيا والآخرة, في غضب الجبّار وعذاب النار, قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}، وثبت في الصحيحين أن قاتل نفسه في الدنيا يعذّب بما قتل نفسه في الآخرة خالداً مخلداً فيها أبدا, تذكّري أن عذاب الدنيا مهما عظم فهو أخف، بل لا يقارن بعذاب الآخرة العظيم المقيم, وتذكري أن البلاء الواقع عليك أقل بكثير من بلاء كثيرات غيرك, كما وإن الانتحار –والعياذ بالله– دليل على ضعف الدين والخلق والعقل, وسوء الظن بالله والخذلان.
اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء, متحيّناً أوقات الإجابة, حيث قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم}، {وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ}، {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}, والشاعر يقول:
“إلهنا ما أعدلك ** مليك كل من ملك
ما خاب عبدٌ أملك ** أنت له حيث سلك
لولاك يا ربِّ هلك ** لبيك إن الحمد لك”.
أسأل الله تعالى أن يمنّ عليك بما يحب ويرضى, ويسعدك في الآخرة والأولى، وأن يعينك ويقوّي عزيمتك وإرادتك، ويعيذك من العجز والكسل والضعف، ويحفظك من وساوس النفس والهوى والشيطان, ويرزقك الزوج الصالح والحياة السعيدة، ويثبتنا وإياك على الدين، ويهدينا صراطه المستقيم, والله الموفق والمستعان, وهو الهادي إلى سواء السبيل.