السؤال
السلام عليكم.
لي ثلاث خالات، وصارت بينهن وبين أختي الصغرى مشاكل، وأنا كنت في صف أختي، لأني متأكدة أنها على حق، وفي نفس الوقت متأكدة أنهن مخطئات، وبعد فترة حُلت المشاكل، وحملن علي في نفوسهن، وصرن يقاطعنني.
طبعا أنا رفضت بعدما تزوجت أن أعطيهن رقم جوالي، فقد كانت تأتيني منهن إزعاجات، فصارحتهن بهذا الموضوع، ولكنني أزورهن في رمضان والأعياد والمناسبات السارة والعزاء، ولكن لا أعرف لماذا لا يتقبلنني خاصة بعد الزواج؟ وأنا لا أريد قطيعة الرحم، لكنهن اللاتي يجبرنني على هذا الشيء!
ساعدوني، جزاكم الله خيراً.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.
نرحب بك -ابنتنا- في موقعك، ونشكر لك هذا الاهتمام، ونسأل الله أن يصلح لنا ولك الأحوال، وأن يلهمنا جميعًا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.
السؤال يدل على أن فيك خيراً، ونحن ندعوك إلى أن تكوني على الخير، فاعلمي أن الخالة أم، وأن خالة الإنسان بمنزلة رفيعة جدًّا، بل إن الخالة والإحسان إليها من الطاعات التي تغفر الذنوب، لقول النبي – عليه الصلاة والسلام – لمن جاءه وقال: أذنبت ذنبًا عظيمًا. قال: هل عندك من أم؟ قال: لا. قال: فهل عندك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها.
أخذ العلماء من هذا أن بر الخالة والإحسان إليها -فوق أنه صلة رحم- من الأشياء التي تغفر الذنب بالنسبة للإنسان، فإنك لاحظتِ أنه قال: أذنبتُ ذنبًا عظيمًا، فالنبي – عليه الصلاة والسلام – أمره أن يبر خالته، فأحسني إلى الخالات، وأحسني إلى الأخوال، وأحسني إلى العمات والأعمام، واعلمي أن صلة الرحم باب عظيم جدًّا من أبواب الخير، وأن قطيعة الرحم وبال كبير وخطير على الإنسان.
ولعل هذا هو الشعور الذي دفعك للسؤال، خاصة بعد أن يسر الله أمرك وتزوجت، ولكن الإنسان لا بد أن يزن هذه المسائل بميزان الآخرة، والإنسان لا يستطيع أن يواظب على صلة أرحامه إلا بصبره على المرارات ونسيانه للجراحات.
ونحن نقول منذ البداية: ينبغي أن نوقن أن الكبير قد يكون مخطئًا، ولكن عندما يُخطئ الكبير على الصغير، فإن المعالجة ينبغي أن تكون حكيمة، نحث هذا الصغير على أن يعتذر رغم أنه ليس مخطئًا، وأن يتعامل مع الوضع بهدوء، وأن يحاول أن يبين للكبار حقائق الأمور، حتى تكتشف بالنسبة لهم، وأنت مطالبة فعلاً بأن تنصفي أختك، لكن مطالبة أيضًا بأن تحترمي الخالات وتحسني إليهن، وتصححي المفاهيم المغلوطة بالنسبة لهن.
على كل حال أنت الآن -بفضل الله- مأجورة على هذا الحرص، وندعوك إلى أن تكرري المحاولات بعد أن تتوجهي إلى رب الأرض والسموات، وكوني دائمًا أنت الفاضلة، أنت الواصلة، أنت الحريصة على الخير، وهذا الذي تقومين به خير كثير -ولله الحمد-.
وأيضًا أرجو أن تبحثي عن الأسباب الفعلية لما حصل في نفوسهن، هل لأجل ذلك الموقف؟ هل لأجل منعهن رقم الهاتف؟ هل لأنهن يشعرن أنك تغيرت عليهن بعد الزواج؟ يحاول الإنسان أن يتفادى بعض الأمور التي قد لا ينتبه لها، لأن الشيطان حريص على إفساد ما بين الأرحام، هذه الدائرة التي أرادها الله مودة ورحمة وصلة، والرحم تعلقت بعرش الرحمن وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة) فقال العظيم سبحانه وتعالى: (أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك) قالت: (بلى) قال: (فذلك لك)، ثم قرأ النبي – عليه الصلاة والسلام -: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} ما هي العقوبة: {أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم}.
وأنت -ولله الحمد- خارجة من هذا الوعيد، ولكن الخالات على خطر عظيم، فكوني عونًا لهن على هذه الصلة، وعلى هذا الإحسان، وأرجو أن تبادري أنت وتقدمي التنازلات، لأنهن هن الخالات وأنت بنت الأخت بالنسبة لهن، وغالبًا قد يكن أكبر منك سنًّا أيضًا، لكن في كل الأحوال (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، دائمًا الذي يبادر بالإصلاح، دائمًا الذي يسعى، دائمًا الذي يتنازل في مثل هذا، هو الأحسن عند الله تبارك وتعالى.
وليس معنى التنازل أن يترك الإنسان حقه، أو لا يوضح الأمور، لكن الإنسان يعتذر ويصلح العلاقة، ثم بعد ذلك لا مانع في أوقات جميلة بألفاظ جميلة أن يوضح لهن حقائق الأمور، ولو على طريقة انفرادية كل واحد منهنَّ على حدة، حتى يتضح الأمر، وحتى لا نعطي للشيطان فرصة، فإن الشيطان يستفيد من هذا الغموض، فيفسد العلاقة بين الأرحام.
والإنسان لا بد أن يصبر على أرحامه كما فعل يوسف، ولا يوجد إنسان آذاه أرحامه كما فعل إخوة يوسف بيوسف، ومع ذلك قال: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، لا تثريب يعني: لا لوم ولا عتاب ولا مؤاخذة ولا تذكير بالملفات القديمة، وهذا أيضًا ما فعله رسولنا – عليه صلاة الله وسلامه – مع أقربائه الذين قتلوا عمه حمزة، وقتلوا ابن عمته عُبيدة بن الحارث، وقتلوا أصحابه وآذوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفسه، وآذوه في ابنته زينب، وناله أذىً لا حصر له، ولا يعلم مداه إلا الله، فلما تمكن من رقابهم قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ثم ردد عبارة يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
فالإنسان عندما يُحسن لأرحامه، يقدم التنازلات، يسامحهم، يصل إلى قلوبهم، يصلهم، يقترب من هدي النبي – عليه الصلاة والسلام – الذي قال للرجل الذي جاء يشكو من قرابته ويقول: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ) لم يقل له: لماذا تتعامل معهم، ولم يقل له: اقطعهم كما يقطعونك، ولم يقل له: العين بالعين والسن بالسن، ولم يقل له: ما في أحد أحسن من أحد – مثل هذه العبارات التي نسمعها – ولم يقل له: رد الصاع صاعين، وإنما قال له – عليه الصلاة والسلام – يُبشره: (إذا كنت كما قلت فكأنما تسفّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك).
فالذي يسعى في صلة الرحم مُبشّر بمعونة الله، وتأييد الله تبارك وتعالى له، فأبشري بالخير، واجتهدي في الصلة، واجتهدي في ردم هذه الهوة، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يُسعدك بالنجاح في صلة الرحم، وحتى يحصل ذلك، كوني أنت الواصلة، وأنت المحسنة، وأنت المتسامحة، وأبشري بالأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.
نشكر لك هذا التواصل، ونشكر لك هذا الحرص، ونسأل الله أن يقر عينك بصلاح هذه العلاقة، هو ولي ذلك والقادر عليه.