السؤال
السلام عليكم
قصتي باختصار هي أنني ولدت وكبرت وتعلمت وتربيت أنا وأخواتي الثلاث على يدي أمي، بينما كان والدي مسافراً طوال 30 عاماً، وإذا حسبنا أيام الزيارات فلا تتجاوز بأفضل الأحوال 4 سنوات، أي أنني لم أعش معه سوى 4 سنوات متقطعة خلال 30 عاماً، أمي هي من ربتني ورعتني، وكانت مسؤولة عني، بينما اقتصرت مهام الوالد فقط على الأكل والشرب، مع الأخذ بالعلم أنه لا يملك بيتاً، وإنما نعيش في بيت جدي كل تلك السنين، وفوق كل هذا تزوج على أمي، لكن الزوجة الثانية طلقت منه بعد فترة.
أنا الآن مغتربٌ عن بلدي ومتزوجٌ -بفضل الله- الذي رزقني بزوجة صالحة، وأهلها يسروا لي كل أمور الزواج والسفر.
يشهد الله -وهو على ما أقول شهيد- بأن والدي لم يساعدني بقرش واحد في زواجي ولا في سفري، إنما أمي كان لها ذهب وباعته من أجلي فقط لكي أشتري قطعة ذهب لزوجتي وأعمل لها حفلة زواج، أي أن المبلغ يكاد يكون رمزياً لا قيمة له، استدنت من خالي مبلغاً بسيطاً جداً (ثمن الطائرة لا أكثر) كي أسافر به، ويشهد الله وقتها لم يكن في جيبي سوى الشيء البسيط، وبفضل الله مرتاح في حياتي.
كنت قد اتخذت قراراً بأن هذا المسمى أباً له دين في رقبتي، وهو مصروف شخص لمدة 30 سنةً طعاماً وملبسًا فقط دون مسكن؛ لأنني لم أسكن في بيت يملكه؛ لذا قررت اعتباره بنكاً قدم لي تمويلاً لمدة ٣٠ عاماً، وأنا ملزم برد الدين على نفس الصورة الذي أخذته، وهي أقساط لمدة ٣٠ عاماً، ولن أحادثه أو أحاول التواصل معه، وإذا مات قبل أن يستوفي دينه فسأعتبره تركة لبناته فقط، ولن آخذ قرشاً واحداً لي، فهل أنا مخطئ؟ وأين هو خطئي؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبًا بك -ابننا الفاضل- في الموقع، ونشكر لك الاهتمام والسؤال وحسن العرض للسؤال، نسأل الله أن يجزي الوالدة خيرًا، وأن يجزي الوالد أيضًا على ما قام به، ونحب أن نؤكد لك أن الوالد يظلّ والدًا، وأن الوالدة تظلُّ والدة، مهما حصل من التقصير من أحدهما أو كليهما، والبر عبادة لله تبارك وتعالى، ربطها الله بعبادته، وربطها الله بطاعته، فقال: {واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا}، وقال: {وقضى ربك ألَا تعبدوا إلَّا إياه وبالوالدين إحسانًا}، حتى قال ابن عباس: لا يقبل الله عبادة مَن لا يُطيع والديه.
ولذلك أرجو ألَّا تحسب الأمور بالطريقة المذكورة، بالطريقة المادّية البحتة، هذا أب له حق شرعي، حتى ولو كان على غير الإسلام، حتى لو كان يأمرك بالعصيان، فصاحبهما في الدنيا معروفًا، {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس له به علم فلا تطعهما}، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال بعدها: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا}.
ولذلك لا يمكن أن نقبل التفكير بالطريقة المذكورة، أن الوالد كان مجرد بنك، طبعًا كونه غاب وكونه قصّر هذا بينه وبين الوالدة، أمَّا أنتم معاشر الأبناء والبنات عليكم الإحسان للأب والإحسان للأم، عليكم المبالغة في إكرام الأم، وكذلك في إكرام الأب، لأنه أب، لأن هذه وظيفة شرعية وواجب شرعي، عبادة لربِّ البرية سبحانه وتعالى.
عليه ندعوك إلى:
– كتمان هذا الذي فكّرت فيه.
– مساعدة الوالدة بقدر ما تستطيع.
– الاهتمام بحياتك.
– الدعاء لوالدك.
– حسن البر له وللوالدة التي تستحق برًّا مضاعفًا، (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، ثم أمُّك، ثم أُمُّك) ثلاث مرات، قال في الرابعة: (ثم أباك).
فاحرص على القيام بما عليك، ونسأل الله أن يُطيل عمره في طاعته، وأن يُطيل أعماركم في طاعته، ونتمنَّى أيضًا ألَّا تُشعره بشيءٍ يُحزنه، والإنسان حتى لو كان عند والده خطأ فإنه ينبغي أن يتلطّف في النصح له، قُدوتنا خليل الرحمن الذي كان يقول لوالده، وهو الذي كان يقود أهل الأصنام والشرك: {يا أبتِ … يا أبتِ … يا أبتِ … يا أبتِ …} كان يُكلّمه بهذا اللطف، بل عندما اشتدّ عليه وطرده {واهجرني مليًّا} قال الخليل: {سلام عليك سأستغفر لك ربي}.
فلنتعلَّم التعامل مع الآباء بلطف من الأنبياء – عليهم صلاة الله وسلامه – فهذا المسمى أباً -كما عبرت ولا نوافقك يا ولدي على هذا الأسلوب- يحاسبه ربه على تقصيره، وهو سبحانه الذي أمرنا ببره، وهذا المسمى أباً أنجبك واختار لك أماً صالحة قامت عليك هذه السنين وحفظتك في ظل غياب والدك، وهذا المسمى أباً رعاك بماله حتى وهو غائب كما ذكرت أنت، فلا ننس هذا الفضل لآبائنا؛ في حين أن غيرك ربما ترك والده حتى مجرد النفقة عليه، فأحسن إلى والدك يا بني غاية الإحسان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَجزي ولدٌ والدًا إلَّا أنْ يجِدهُ مملوكًا فيشتريَهُ فيُعتقَهُ) لأنه كان السبب في وجودك. وأما كونه لم يشتر بيتاً؛ فهذه كلها أرزاق ومثل والدك كثير، والله أعلم بظروفهم التي كانوا فيها، وحتى لو كانت أحوالهم المالية جيدة؛ فكما ذكرنا هي أرزاق وتوفيق من مقدر الأقدار سبحانه.