السؤال
السلام عليكم.
أنا شاب عمري ٣٩ سنة، وقد نشأت في أسرة مرتاحة ماديًا، ولكنها مشرذمة.
والدي شخص ناجح، ومتزوج سابق، وله بنتان، ولكنه لم يتقبل طلب زوجته الطلاق فحرمها من بناتها، ثم تزوج والدي وأنجب طفلين، وكما حرم زوجته السابقة من بناتها أجبر أمي على تربيتهن، وانطلق للعمل ولنزواته، وهنا نشأنا في منزل جله صراعات، وصراخ، لا نعلم أمي إلا مريضة، لا حول لها ولا قوة، وكبرنا ووضعنا لوالدي حدًا بسيطًا لكي لا يتعرض لأمي بالضرب، ولكن أصابها السرطان وبقينا ٩ سنوات في الصراع مع مرض السرطان إلى أن رحمها الله فتوفيت وغلبها المرض.
في فترة علاجها كنا نحن سندها، وأبي كان عبارة عن صراف آلي لا أكثر، وبعد أن توفيت عانينا ولم نكن نعرفه على حقيقته، وتوضحت لنا الصورة، فلم يساعدنا بشيء، لا صحيًا، ولا ارتباطًا، ولا سفرًا، ولا عملاً.
قاومنا الظروف واعتمدنا على أنفسنا، وللأسف الظروف والحرب في البلد كانت أقوى منا، وعندما هممنا أن نسافر أنا وأخي؛ لأن أخواتي البنات سافروا منذ ٢٥ سنة تعرض أبي لكورونا، وحدث له ضمور دماغي من الخثرات، ونتيجة حبه لنفسه أصبح مقعدًا في السرير من خوفه أن يمشي ويقع إلى أن أصبح مقعدًا.
الآن خسرنا عملنا وعمرنا، ونشأت مشاكل مع أخواتي البنات لكي يساعدونا بوالدهم، ولكن كل له حياته، ولا يريدون تقديم العون، وأنا الآن مستسلم، وأطلب من الله أن يأخذني كي لا أجرؤ على الانتحار، خوفًا من الله.
ماذا أفعل بحالتي النفسية؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأهلاً بك -أخي الكريم، وإنا نسأل الله أن يفرج الكرب، وأن ينفس ما تعسر على البشر تنفيسه، وأن ييسر بقدرته ما كان عسيرًا على خلقه، وأن يلهمك طريق الصواب، وأن يرشدك إلى الحق، وأن يأخذ بناصيتك إليه. وأما بخصوص ما تفضلت به فاعلم يا رعاك الله:
أولاً: نحن نتفهم الألم الذي تتحدث به، ونستشعر المعاناة التي تمر بها، ونعلم أن مصيبتك هم ثقيل عليك، وامتحان عسير، الخاسر فيه من رسب، والرابح الفائز منه من نجا، وأنت بين خيارين أخي الكريم:
– إما أن تترك والدك، أو تقصر في حقه بأي دعوى لتربح بعض دنياك.
– أو تتعالى على نفسك، وتتجاوز جراح أمسك، وتحتسب الأجر من ربك لتربح بر والدك، وتحظى برضوان الله.
هي معركة أخي وأنت المختبر فيها، هو ابتلاء والجنة الثمن، فما أقل صبر من صبر إذا كانت عاقبته الجنة، وما أقل جزع من جزع إذا كانت عاقبته غضب الله عليه.
أخي: أنت تعلم أن كل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، وإذا سلم دينك فما يضرك بعده شيء، وإذا ذهب دينك فما ينفعك بعده شيء، وتعلم كذلك أن الابتلاء سنة ماضية، وأن الله يبتلي عباده لحكم يجهلونها أو يجهلون بعضها.
ورغم معاناتك -أخي الكريم- فما أنت فيه من ابتلاء هو لغيرك عافية، فمريض القلب هو في عافية بالنسبة لمريض السرطان، ومريض السرطان الذي يجد دواءً هو في عافية بالنسبة لغيره الذي لا يجد علاجًا، ومريض السرطان الذي لا يجد علاجًا هو في عافية عند الرضا، غير الساخط على الله عز وجل، الشاهد إن كان الابتلاء فهناك من هو أشد حالاً وأمّر، وكلما افترض العبد ذلك وجد الدافعية عنده للصبر، فلسنا وحدنا الذين نعيش في ابتلاء، الجميع مخلوق لأجل ذلك، قال الله: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وقال الله:(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)) .
ثم اعلم أرشدك الله للخير أن أكمل الناس إيمانًا أشدهم ابتلاء، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
وعليه فالابتلاء من السنن الكونية، ووقوع البلاء على المخلوقين اختبار لهم، وتمييز بين الصادق والكاذب، قال تعالى: (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)، وعظم أجر الصابر عند الله عظيم، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
ثانيًا: اعلم أخي الكريم أن الناس أمام البلاء على قسمين:
1- قسم يتصور نهاية الحياة قد اقتربت منه، بل ويحدثه شيطانه بالإسراع أو بالإجهاز عليها، وهذا الشعور وحده يدفعه إلى الغرق في مشكلته ظنًا منه أنه أبأس الناس، وأشد الناس ظلمة، وأكثرهم ابتلاء، وهذا لا تجده إلا ساخطًا كئيبًا حزينًا، ومع ذلك ضاع أجر الصبر منه.
2- القسم الآخر: يدرك أنه في ابتلاء، وأن غيره أشد حالاً منه، وأنه مأجور عند الصبر، وأن الإحسان إلى الوالد وإن أساء فرض ودين، وأنه مطالب شرعًا بالبر به وإن أخطأ في حقه، والإحسان إليه وإن لم ير منه معروفًا قط، ساعتئذ سيحدد المشكلة بهدوء، ويضع الخيارات المناسبة للتعامل معها، ويستحضر الأجر في كل خطوة يخطوها، فإذا غلبه الهم والحزن جعل منهما دافعًا إلى الإحسان أكثر؛ لأنه مؤمن في خاصة نفسه أنه ما ابتلي إلا لحكمة، ولا صبر إلا بمعونة.
هذا العبد -أخي- كل يوم يقترب من ربه، وكل يوم يربح من الحسنات ما لا يعلم بها إلا الله، وقد يأتيه فرج لم يتخيله ولم يتوقعه، والكريم إذا أعطى أدهش.
ثالثًا: أخي الكريم: إننا ندعوك إلى شد عضدك بأخيك الموجود، والتقاسم في الخدمة بينك وبينه، واحتساب الأجر عند الله رفعة ومنة، ولا تستجد من أحد شيئًا، ابذل ما عليك، وقل في نفسك لن يسبقني في بر أبي أحد، افعل ذلك تقربًا إلى الله، وسترى عاقبة ذلك في دنياك قبل آخرتك.
رابعًا: نريدك كذلك -أخي الكريم- حتى يثبت الله قلبك، ويصرف عنك ما يقذقه الشيطان من أفكار محرمة ومهلكة وسلبية في آن واحد، نريد منك ما يلي:
1- قراءة باب القضاء والقدر من كتب العقيدة.
2- جدولة الابتلاءات والمشاكل كلها، وما كان قابلاً للعلاج فابدأ به، وما لم يكن قابلاً فاستعن بالله عليه، وتعايش معه.
3- زيارة المشافي والمرور بين أهلها، وزيارة المقابر والوقوف عند أهلها.
4- الخلوة مع الله تعالى، ودعائه، واعلم أن دعاءك كله مستجاب، ولكن وفق مسارات محددة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ، ولا قطيعةُ رَحِمٍ ؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاثَ:
إما أن يُعجِّلَ له دعوتَه.
وإما أن يدَّخِرَها له في الآخرةِ.
وإما أن يَصرِف عنه من السُّوءِ مثلَها.
قالوا: إذًا نُكثِرُ. قال: اللهُ أكثرُ).
هذا هو الطريق -أخي الكريم-، وأنت أمامك كنز ثمين وفضل عظيم وخير كثير بإحسانك إلى من ضعفت قوته، ولم يعد له معين بعد الله سواك، فالله الله فيه، واطلب من الله العون، واستمد منه الفضل، وابذل ما تستطيعه في بره، وستجد العقبى لك خيرًا كثيرًا.
نسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يصرف عنك ما حل بك، وأن يرزقك بر والدك، وأن يرزقك مرضاة الله عليك، والله الموفق.