العلاج الجيني :
هو إصلاح الخلل في الجينات ، أو تطويرها ، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به ، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين :
الطريقة الأُولى :
عن طريق الخلية العادية
وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب ، فإدخال الجين إلى الكروموسوم في الخلية يجب أن يكون في موقع محدد ، لأن الإدخال العشوائي قد يترتب عليه أضرار كبيرة .
ومن المعلوم أن توصيل الجينات يمكن أن يتم بطرق كيميائية ، أو فيزيائية ، أو بالفيروسات ، أما الطريقة الكيميائية فيتم دمج عدة نسخ من DNA الحامل للجين السليم بمادة مثل فوسفات الكالسيوم ، ثم يفرغ ذلك في الخلية المستقبلية حيث تعمل المادة الكيميائية على تحطيم غشاء الخلية ، وتنقل بالتالي المادة الوراثية إلى الداخل .
وهناك طريقة أخرى لتوصيل الجينات عن طريق الحقن المجهري حيث يتم دخول المادة الوراثية إلى السيتوبلازم ، أو النواة .
وطريقة استخدام الفيروسات هي الأكثر قبولاً وتطبيقاً ، وذلك باستخدام الفيروسات كنواقل أو عربات شحن في النقل الجيني ، وهناك نوعان من الفيروسات ، أحدهما مادته الوراثية DNA والنوع الآخر RNA وعلى الرغم من أنهما مختلفان كيميائياً لكنهما يجمعهما أنهما من وحدات نيوكيلوتيده ، وأنهما يشملان شفرات منتظمة بالإضافة إلى تسلسل دقيق للقواعد النيتروجينية ، فقد أثبتت التجارب العملية أن الجين المسؤول عن تكوين بيتاجلوبين البشري يمكن إدخاله في خلايا عظام الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل ، وكانت النتيجة جيدة ، واستخدم البعض الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري إلى أرومات ليفية ، وطبقت كذلك على أجنة التجارب بواسطة خلايا الكبد والعضلات .
وبعد التجارب المعملية خرجت التطبيقات منها إلى الإنسان مباشرة حيث كانت التجربة الأولى على الطفلتين ( سبنـتيا ) و ( أشانتي ) اللتين ولدتا وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم أدينوزين ديمتاز يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائية المسماة بالخلايا النائبة (T – Cells ) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة وفي سبتمبر 1990 بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي ) بالخلايا المعالجة وراثياً ثم أخضعت الطفلة الثانية في يناير 1991 وكانت نتيجة علاجهما جيدة .
الطريقة الثانية :
عن طريق إدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي ، أو البويضة .
وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين ، حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي : هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه ؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي ، أو البويضة ؟ .
ولذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب الأخلاقي وهو أن العلاج في الحالتين لا بدَّ أن لا يؤدي بأية حالة من الأحوال إلى التأثير في البنية الجينية ، والسلالة الوراثية .
ومن جانب آخر فإن للاسترشاد الوراثي ، والهندسة الوراثية دوراً رائداً في منع المرض وتطبيق قاعدة : الوقاية خير من العلاج .
والعلاج الجيني لا يقتصر دوره على الإنسان بل له دوره الأكبر في عالم النبات والحيوان مثل تغيير وتعديل التركيب الوراثي للكائنات ، أو ما يعرف بهندسة المورثات في الكائنات من مثل التحور الجيني في النبات والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثياً .
مستقبل العلاج الجيني :
تشير النتائج والأبحاث إلى أن مستقبلاً زاهراً ينتظر العلاج الجيني ، وأنه يستفاد منه لعلاج أمراض واسعة الانتشار تطال الملايين من مرضى العالم مثل السرطان ، والتهاب الكبد الفيروسي ، والايدز ، وفرط الكولوسترول العائلي ، وتصلب الشرايين ، والأمراض العصبية مثل داء باركتسون ومرض الزهايمر ، إضافة إلى معالجة الأجنة قبل ولادتها ، وتشخيص الأمراض الوراثية قبل الزواج
منافع العلاج الجيني:
هناك فوائد كبيرة ، ومنافع كثيرة تتحقق من خلال العلاج الجيني يمكن أن نذكر أهمها :
1. الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية ، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلاً بإذن الله ، أو الإسراع بعلاجها ، أو التخفيف عنها قبل استفحاله ، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض ، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني .
2. تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني ، والاستشارة الوراثية .
3. إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية ، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية ، والسكر ونحوها .
4. الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة ، وبالتالي الحد من الولادات المشوهة .
5. إنتاج مواد بيولوجية ، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج .
سلبيات العلاج الجيني وأخطاره :
تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية ، منها :
1. من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة ، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف ، أو التأمين بصورة عامة ، والامتناع عن الزواج منه رجلاً كان أو امرأة ، فقراءة جينومه تؤثر فعلاً على عمله الوظيفي ، وعلى زواجه ، وعلى كثير من أموره الخاصة به ، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه ، بل قد لا يصبح مريضاً مع انه حامل الفيروس ، أو جين مريض ، فليس كل حامل للمرض مريض ، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه.
2. التأثير على ثقة الإنسان بنفسه ، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم ، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته ، وخصوصيته الشخصية وأسراره .
3. ان هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة ، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي ، أو فيهما بعد التلقيح .
4. وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية ـ بفتح القاف ـ من الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والشكل ، ونحو ذلك ، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، مما يدخل في باب تغير خلق الله المحرم .
والعالم المتقدم اليوم ( وبالأخص أمريكا ) في تسابق خطير وتسارع إلى تسجيل الجديد في هذا المجال الخطير وبالأخص ما يتعلق بالإنسان فيوجد الآن أكثر من 250 معملاً ومختبراً متخصصاً في عالم الجينات فلا يُطلِع مختبر الآخر على نتائجه الجديدة ، ولذلك لا يستبعد في يوم من الأيام خروج شيء من تلك الكائنات المهندسة وراثياً ويحمل إمّا أمراضاً جديدة ، أو جراثيم بيولوجية مدمرة ، وخاصة ليست هناك ضمانات قانونية ولا أخلاقية
لكثير من هذه المعامل ، ولذلك أنشئت هيئة الهندسة البيولوجية الجزيئية في فرنسا ، ولكنها غير كافية ، وهذه الأخطار تتعلق بما يأتي :
1. أخطار تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة ، إضافة إلى أن بعض الحيوانات المحورة وراثياً تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية ، أو البيئة للخطر.
2. أخطار تتعلق بالمعالجة الجينية من النواحي الآتية :
أ ـ النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات) وذلك لأن التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلاً جديداً غامض الهوية ضائع النسب .
ب ـ الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة .
ج ـ احتمالية الضرر ، أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني .
د ـ الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضاً آخر ربما أشد ضرراً .
هـ ـ احتمال أن تُسـبب الجينة المزروعة نمواً سرطانياً .
و ـ استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين .
ز ـ أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة ، والكائنات الدقيقة المهندسة وراثياً .
ح ـ استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة .
الحكم الشرعي للعلاج الجيني :
ينظر إلى العلاج الجيني من خلال اعتبارين : اعتبار عام من حيث هو علاج للأمراض ، واعتبار خاص يتعلق بخصوصيته وماله من آثار وإجراءات .
أ ـ من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فيطبق عليه من حيث المبدأ ، الحكم الشرعي التكليفي للعلاج .
فمن الناحية الفقهية قد اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال ، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة ( الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ) ترد عليه .
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا ( الخناق ) والتيفود الكوليرا للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) ، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع … أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت ) .
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم ) ، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنـزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام ) ، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج .
وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين ، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله ، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء ، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : ( اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر ) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله ) .
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنـته ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت … ) ، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى …. فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ) .
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركها إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .
ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع .
ب ـ النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية ، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية .
فبهذا الاعتبار لا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان متعلق الحكم معلوماً مبيناً واضحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .